الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: عيون الأنباء في طبقات الأطباء (نسخة منقحة)
فيغنيه أبو زكار هذا الصوت، ولا يقترح غيره، فلم تزل هذه حالنا إلى أن صليتا العتمة، ثم دخل إلينا أبو هاشم مسرور الكبير، ومعه خليفة هرثمة بن أعين، ومعه جماعة كثيرة من الجند، فمد يده خليفة هرثمة إلى يد جعفر، ثم قال له قم يا فاسق قال جبرائيل؛ ولم أكلم ولم يؤمر في بأمر؟ وصرت إلى منزلي من ساعتي، وأنا لا أعقل، فما أقمت فيه إلا أقل من مقدار نصف ساعة، حتى صار إلي رسول الرشيد يأمرني بالمصير إليه، فدخلت إليه ورأس جعفر في طشت بين يديه، فقال لي يا جبرائيل أليس كنت تسألني عن السبب في قلة رزئي للطعام؟ فقلت بلى يا أمير المؤمنين، فقال الفكرة، فيما ترى، أصارتني إلى ما كنت فيه وأنا اليوم يا جبرائيل عند نفسي كالناقة، قدم غذائي حتى ترى من الزيادة على ما كنت تراه عجباً، وإنما كنت آكل الشيء بعد الشيء لئلا يثقل الطعام علي فيمرضني، ثم دعا بطعامه في ذلك الوقت فأكل أكلًا صالحًا من ليلته، قال يوسف حدثني إبراهيم بن المهدي أنه تخلف عن مجلس محمد الأمين، أمير المؤمنين، أيام خلافته، عشية من العشايا لدواء كان أخذه؛ وإن جبرائيل بن بختيشوع باكره غداة اليوم الثاني، وأبلغه سلام الأمين، وسأله عن حاله كيف كانت في دوائه، ثم دنا منه، فقال له أمر أمير المؤمنين في تجهيز علي بن عيسى بن ماهان إلى خراسان ليأتيه بالمأمون أسيرًا في قيد من فضة وبجبرائيل بريء من دين النصرانية أن لم يغلب المأمون محمدًا ويقتله، ويحوز ملكه- فقلت له ويحك ولم قلت هذا القول؟ وكيف قلته؟ قال لأن هذا الخليفة الموسوس سكر في هذه الليلة، فدعا أبا عصمة الشيعي صاحب حرسه، وأمر بسواده فنزع عنه وألبسه ثيابي وزناري وقلنسوتي، وألبسني أقبيته، وسواده وسيفه ومنطقته؛ وأجلسني في مجلس صاحب الحرس إلى وقت طلوع لفجر؛ وأجلسه في مجلسي؛ وقال لكل واحد، مني ومن أبي عصمة قد قلدتك ما كان يتقلده صاحبك، فقلت أن اللَّه مغير ما به من نعمة لتغييره ما بنفسه منها، وأنه إذا جعل حراسته إلى نصراني، والنصرانية أذل الأديان، لأنه ليس في عقد دين غيرها التسليم لما يريد به عدوه من المكروه، مثل الإذعان لمن سخره بالسخرة، وأن يمشي ميلًا أن يزيد على ذلك ميلًا آخر، وإن لطم له خد حول الآخر ليلطم، غير ديني، فقضيت بأن عز الرجل زائل، وقضيت أنه حين أجلس في مجلس متطببه الحافظ عنده لحياته والقائم بمصالح بدنه والخادم لطبيعته، أبا عصمة الذي لا يفهم من كل ذلك قليلًا ولا كثيراً، بأنه لا عمر له، وأن نفسه تالفة.قال أبو إسحاق فكان على ما تفاءل جبرائيل به، قال يوسف بن إبراهيم وسمعت جبرائيل بن يختيشوع يحدث أبا إسحاق إبراهيم بن المهدي أنه كان عند العباس بن محمد إذ دخل عليه شاعر امتدحه، فلم يزل جبرائيل يسمع منه إلى أن صار إلى هذا البيت وهو: قال جبرائيل فلما سمعت هذا البيت لم أصبر لعلمي أن العباس أبخل أهل زمانه، فقلت لا فتبسم العباس ثم قال لي اغرب قبح اللَّه وجهك، أقول، هذا الشاعر الذي يشار إليه هو ربيعة الرقى، قال يوسف وحدث جبرائيل أبا إسحاق في هذا المجلس أنه دخل على العباس بعد فطر النصارى بيوم وفي رأسه فضلة من نبيذة بالأمس، وذلك قبل أن يخدم جبرائيل الرشيد، فقال جبرائيل للعباس كيف أصبح الأمير أعزه اللَّه؟ فقال العباس أصبحت كما تحب، فقال له جبرائيل واللَّه ما أصبح الأمير على ما أحب، ولا على ما يحب اللَّه، ولا على ما يحب الشيطان، فغضب العباس من قوله ثم قال له ما هذا الكلام قبحك اللَّه قال جبرائيل فقلت عليّ البرهان، فقال العباس لتأتيني به وإلا أحسنت أدبك ولم تدخل لي داراً؛ فقال جبرائيل الذي كنت أحب أن تكون أمير المؤمنين، فأنت كذلك؟ قال العباس لا، قال جبرائيل والذي يحب اللَّهُ من عباده الطاعة له فيما أمرهم به، ونهاهم عنه، فأنت أيها الملك كذلك؟ فقال العباس لا واستغفر اللَّه، قال جبرائيل والذي يحب الشيطانُ من العباد أن يكفروا باللَّه ويجحدوا ربوبيته فأنت كذلك أيها الأمير؟ فقال له العباس لا، ولا تعد إلى مثل هذا القول بعد يومك هذا، قال فثيون الترجمان ولما عزم المأمون على الخروج إلى بلد الروم في سنة ثلاث عشرة ومائتين مرض جبرائيل مرضًا شديدًا قوياً، فلما رآه المأمون ضعيفًا التمس منه إنفاذ بختيشوع ابنه معه إلى بلد الروم، فأحضره وكان مثل أبيه في الفهم والعقل والسرو، ولما خاطبه المأمون وسمع حسن جوابه، فرح به فرحًا شديدًا وأكرمه غاية الإكرام، ورفع منزلته وأخرجه معه إلى بلد الروم، لما خرج طال مرض جبرائيل إلى أن بلغ الموت، وعمل وصيته إلى المأمون، ودفعها إلى ميخائيل صهره ومات، فمضى في تجميل موته ما لم يمض لأمثاله بحسب استحقاقه بأفعاله الحسنة وخيريته، ودفن في دير مار سرجس بالمدائن، ولما عاد ابنه بختيشوع من بلد الروم جمع للدير رهبانًا وأجرى عليهم جميع ما يحتاجون إليه.وقال فثيون الترجمان أن جنس جورجس وولده كانوا أجمل أهل زمانهم بما خصهم اللَّه به من شرف النفوس، ونبل الهمم؛ ومن البر والمعروف، والأفضال والصدقات، وتفقد المرضى من الفقراء والمساكين، والأخذ بأيدي المنكوبين والمرهوقين على ما يتجاوز الحد في الصفة والشرح، أقول وكانت مدة خدمة جبرائيل بن بختيشوع للرشيد منذ خدمه وإلى أن توفي الرشيد ثلاثًا وعشرين سنة، ووجد في خزانة بختيشوع بن جبرائيل مدرج فيه عمل بخط كاتب جبرائيل بن بختيشوع الكبير، وإصطلاحات بخط جبرائيل لما صار إليه في خدمته الرشيد يذكر أن رزقه كان من رسم العامة في كل شهر من الورق عشرة آلاف درهم، يكون في السنة مائة وعشرون ألف درهم، في مدة ثلاث وعشرين سنة ألف ألف وستمائة وستون ألفاً؛ ونزله في الشهر خمسة آلاف درهم، يكون في السنة ستون ألف درهم، في مدة ثلاث وعشرين سنة ألف ألف وثلثمائة وثمانون ألف درهم، ومن رسم الخاصة في المحرم من كل سنة من الورق خمسون ألف درهم يكون في مدة ثلاث وعشرين سنة ألف ألف ومائة وخمسون ألف درهم، ومن الثياب خمسون ألف درهم، يكون في مدة ثلاث وعشرين سنة ألف ألف ومائة وخمسون ألف درهم، تفصيل ذلك القصب الخاص الطرازي عشرون شقة، الملحم الطرازي عشرون شقة، الخز المنصوري عشر شقاق، الخز المبسوط عشر شقاق، الوشي اليماني ثلاثة أثواب، الوشي النصيبي ثلاثة أثواب، الطيالسة ثلاثة طيالس، ومن السمور والفنك والقماقم والدلق والسنجاب للقبطين، وكان يدفع إليه في مدخل صوم النصارى في كل سنة من الورق خمسون ألف درهم، يكون في مدة ثلاث وعشرين ألف ألف ومائة وخمسون ألف درهم، وفي يوم الشعانين من كل سنة ثياب من وشي وقصب وملحم وغيره بقيمة عشرة آلاف درهم، يكون في مدة ثلاث وعشرين سنة؛ مائتان ألف وثلاثون ألفاً، وفي يوم الفطر في كل سنة من الورق خمسون ألف درهم، يكون في مدة ثلاث وعشرين سنة ألف ألف ومائة وخمسون ألف درهم، وثياب بقيمة عشرة آلاف درهم، على الحكاية، يكون في مدة ثلاث وعشرين سنة مائتا ألف وثلاثون ألف درهم، ولفصد الرشيد دفعتين في السنة كل دفعة خمسون ألف درهم من الورق، مائة ألف درهم، يكون في مدة ثلاث وعشرين سنة ألفا ألف وثلثمائة ألف درهم، ولشرب الدواء دفعتين في السنة، وكل دفعة خمسون ألف درهم، مائة ألف درهم، يكون في مدة ثلاث وعشرين سنة ألفا ألف وثلاثمائة ألف درهم، ومن أصحاب الرشيد، على ما فصل منه مع ما فيه من قيمة الكسوة وثمن الطيب والدواب، وهو مائة ألف درهم من الورق، فيكون أربعمائة ألف درهم، يكون في مدة ثلاث وعشرين سنة تسع آلاف ألف ومائتا ألف درهم، تفصيل ذلك عيسى بن جعفر خمسون ألف درهم؛ زبيده أم جعفر خمسون ألف درهم؛ العباسة خمسون ألف درهم؛ إبراهيم بن عثمان ثلاثون ألف درهم؛ الفضل بن الربيع خمسون ألف درهم؛ فاطمة أم محمد سبعون ألف درهم؛ كسوة وطيب ودواب مائة ألف درهم، ومن غلة ضياعه بجندي سابور والسوس والبصرة والسواد في كل سنة قيمته، بعد المقاطعة، ورقًا ثماني مائة ألف درهم، يكون في مدة ثلاث وعشرين سنة ثمانية عشر ألف ألف ومائة ألف درهم، وكان يصير إليه من البرامكة في كل سنة من الورق ألفا ألف وأربعمائة ألف درهم، وتفصيل ذلك يحيى بن خالد ستماية ألف درهم؛ جعفر بن يحيى الوزير ألف ألف ومائتا ألف درهم؛ الفضل ابن يحيى ستماية ألف درهم، يكون في مدة ثلاث عشرة سنة أحد وثلاثين ألف ألف ومائتي ألف درهم، يكون جميع ذلك مدة أيام خدمته للرشيد، وهي ثلاث وعشرون سنة، وخدمته للبرامكة وهي ثلاث عشرة سنة.سوى الصلات الجسام فإنها لم تذكر في هذا المدرج من الورق ثمانية وثمانين ألف درهم، وثمانمائة ألف درهم؛ ثلاث آلاف ألف وأربعمائة ألف درهم، التذكرة الخراج من ذلك ومن الصلات التي لم تذكر في النفقات وغيرها على ما تضمنه المدرج المعمول من العين تسعمائة ألف دينار، ومن الورق تسعون ألف ألف وستمائة ألف درهم، تفصيل ذلك، ما صرفه في نفقاته وكانت في السنة ألفي ألف ومائتي ألف درهم على التقريب، وجملتها في السنين المذكورة سبعة وعشرون ألف ألف درهم وستماية ألف درهم، ثمن دور وبساتين ومنتزهات ورقيق ودواب والجمازات سبعون ألف ألف درهم، ثمن آلات وأجر وصناعات وما يجري هذا المجرى ثمانية آلاف ألف درهم، ما صار في ثمن ضياع ابتاعها لخاصته اثنا عشر ألف ألف درهم، ثمن جواهر وما أعده للذخائر عن قيمة خمسمائة ألف دينار خمسون ألف ألف درهم، ما صرفه في البر والصلات والمعروف والصدقات، وما بذل به حظه في الكفالات لأصحاب المصادرات، في هذه السنين المقدم ذكرها ثلاثة آلاف ألف درهم، ما كابره عليه أصحاب الودائع وجحدوه ثلاثة آلاف ألف درهم، ثم وصى بعد ذلك كله عند وفاته إلى المأمون لابنه بختيشوع، وجعل المأمون الوصي فيها فسلمها إليه، ولم يعترض في شيء منها عليه بتسعماية ألف دينار، وجبرائيل بن بختيشوع هو الذي يعنيه أبو نواس في قوله: وذكر أبو الفرج علي بن الحسين الأصبهاني في كتاب المجرد في الأغاني هذه الأبيات: قال أبو الفرج والشعر للمأمون في جبرائيل بن بختيشوع المتطبب، والغناء لمتيم خفيف رمل.ومن كلام جبرائيل بن بختيشوع قال أربعة تهدم العمر إدخال الطعام على الطعام قبل الإنهضام، والشرب على الريق، ونكاح العجوز، والتمتع في الحمام، ولجبرائيل بن بختيشوع من الكتب رسالة إلى المأمون في المطعم والمشرب، كتاب المدخل إلى صناعة المنطق، كتاب في الباه، رسالة مختصرة في الطب، كناشه، كتاب في صنعة البخور، ألفه لعبد اللَّه المأمون، بختيشوع بن جبرائيل بن بختيشوع كان سريانيًّا نبيل القدر، وبلغ من عظم المنزلة والحال وكثرة المال، ما لم يبلغه أحد من سائر الأطباء الذين كانوا في عصره، وكان يضاهي المتوكل في اللباس والفرش، ونقل حنين بن إسحاق لبختيشوع بن جبرائيل كتبًا كثيرة من كتب جالينوس إلى اللغة السريانية والعربية، قال فثيون الترجمان لما ملك الواثق الأمر، كان محمد بن عبد الملك الزيات وابن أبي داود يعاديان يختيشوع، ويحسدانه على فضله، وبره، ومعروفه، وصدقاته، وكمال مروءته، فكانا يغريان الواثق عليه إذا خلوا به، فسخط عليه الواثق، وقبض على أملاكه وضياعه، وأخذ منه جملة طائلة من المال، ونفاه إلى جندي سابور، وذلك في سنة ثلاثين ومائتين، فلما اعتل بالاستسقاء، وبلغ الشدة في مرضه، أنفذ من يحضر بختيشوع، ومات الواثق قبل أن يوافي بختيشوع، ثم صلحت حال بختيشوع، بعد ذلك في أيام المتوكل، حتى بلغ في الجلالة، والرفعة، وعظم المنزلة، وحسن الحال، وكثرة المال، وكمال المروءة، ومباراة الخلافة في الزي واللباس، والطيب، والفرش، والصناعات، والتفسيح، والبذخ في النفقات، مبلغًا يفوق الوصف، فحسده المتوكل وقبض عليه، ونقلت من بعض التواريخ، أن يختيشوع بن جبرائيل، كان عظيم المنزلة عند المتوكل، ثم أن بختيشوع أفرط في أدلاله عليه، فنكبه وقبض أملاكه ووجه به إلى مدينة السلام، وعرض للمتوكل بعد ذلك قولنج، فاستحضره المتوكل واعتذر إليه، وعالجه وبرأ، فأنعم عليه ورضي عنه، وأعاد ما كان له، ثم جرت على بختيشوع حيلة أخرى فنكبه نكبة قبض فيها جميع أملاكه، ووجه به إلى البصرة، وكان سببه الحيلة عليه أن عبد اللَّه استكتب المنتصر أبا العباس الحصيني وكان رديئاً، فاتفقا على قتل المتوكل واستخلاف المنتصر، وقال بختيشوع للوزير كيف استكتبت المنتصر الحصيني وأنت تعرف رداءته؟ فظن عبد اللَّه أن يختيشوع قد وقف على التدبير، فعرف الوزير ما قاله له بختيشوع، وقال أنتم تعلمون كيف محبة بختيشوع له، وأحسب أنه يبطل التدبير فكيف الحيلة؟ فقالوا للمنتصر إذا سكر الخليفة، فخرَّق ثيابك ولوثها بالدم، وادخل إليه، فإذا قال ما هذا؟ فقل بختيشوع ضرب بيني وبين أخي، فكاد أن يقتل بعضنا بعضاً، وأنا أقول يا أمير المؤمنين، يبعد عنهم، فإنه يقول افعلوا، فتنفيه، فإلى أن يسأل عنه نكون قد فرغنا من الأمر.ففعل ذلك ونكب وقتل المتوكل ولما استخلف المستعين رد بختيشوع إلى الخدمة وأحسن إليه إحسانًا كثيرا، ولما ورد الأمر إلى ابن عبد اللَّه محمد بن الواثق، وهو المهتدي، جرى على حال المتوكل في أنسه بالأطباء وتقديمه إياهم وإحسانه إليهم، وكان يختيشوع لطيف المحل من المهتدي باللَّه، وشكا بختيشوع إلى المهتدي ما أخذ منه في أيام المتوكل، فأمر بأن يدخل إلى سائر الخزائن فكل ما اعترف به فليرد إليه بغير استثمار ولا مراجعة، فلم يبق له شيء إلا أخذه، وأطلق له سائر ما فاته، وحاطه كل الحياطة، وورد على بختيشوع كتاب من صاحبه بمدينة السلام يصف فيها أن سليمان بن عبد اللَّه بن طاهر قد تعرض له لمنازلة، فعرض بختيشوع الكتاب على المهتدي بعد صلاة العتمة، فأمر بإحضار سليمان بن وهب في ذلك الوقت، فحضر، وتقدم إليه بأن يكتب من حضرته إلى سليمان بن عبد اللَّه، بالإنكار عليه لما اتصل به من وكيل بختيشوع، وأن يتقدم إليه بإعزاز منازله وأسبابه بأوكد ما يكون، وأنفذ الكتاب، من وقته، مع أخص خدمه إلى مدينة السلام، وقال بختيشوع للمهتدي في آخر من حضر الدار يا أمير المؤمنين، ما اقتصدتُ ولا شربت الدواء منذ أربعين سنة، وقد حكم المنجمون بأني أموت في هذه السنة، ولست أغتم لموتي وإنما غمي لمفارقتكم، فكلمه المهتدي بكلام جميل، وقال قلّما يصدق المنجم، فلما انصرف كان آخر العهد به، وقال إبراهيم بن علي الحصري في كتاب نور الطرف ونور الظرف، أنه تنازع إبراهيم بن المهدي وبختيشوع الطبيب بين يدي أحمد ابن داؤد في مجلس الحكم في عقار بناحية السواد، فأربى عليه إبراهيم وأغلظ له فغضب لذلك أحمد بن أبي داؤد وقال يا إبراهيم؛ إذا تنازعت في مجلس الحكم بحضرتنا أمرًا فليكن قصدك أمما، وطريقك نهجا، وريحك ساكنة، وكلامك معتدلاً، ووف مجالس الخليفة حقوقها من التوفيق والتعظيم والاستطاعة، وريحك ساكنة، وكلامك معتدلاً، ووف مجالس الخليفة حقوقها من التوفيق والتعظيم والاستطاعة، والتوجيه إلى الحق، فإن هذا أشكل بك، وأجمل بمذهبك في محتدك وعظيم خطرك، ولا تعجلن، فرب العجلة تورث رثياً، واللَّه يعصمك من الزلل، وخطل القول، والعمل، ويتم نعمته عليك كما أتمها على آبائك من قبل، إن ربك عليم حكيم.فقال إبراهيم أمرت، أصلحك اللّه، بسداد، وحضضت على رشاد، ولست بعائد إلى ما يثلم قدري عندك، ويسقطني من عينك، ويخرجني من مقدار الواجب إلى الاعتذار؛ فها أنا معتذر إليك من هذه البادرة، اعتذار مقر بذنبه، باخع بجرمه، لأن الغضب لا يزال يستفزني بمراده، فيردني مثلك بحلمه، وتلك عادة اللَّه عندك وعندنا فيك، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وقد خلعت حظي من هذا العقار لبختيشوع، فليت ذلك يكون وافيًا بأرش الجناية عليه، ولن يتلف مال أفاد موعظة وباللَّه التوفيق، حدث أبو محمد بدر بن أبي الأصبع الكاتب قال حدثني جدي، قال دخلت إلى بختيشوع في يوم شديد الحر وهو جالس في مجلس مخيّش بعدة طاقات ريح بينهما طاق أسود وفي وسطها قبة عليها جلال من قصب مُظَّهر بدبيقى قد صبغ بماء الورد والكافور والصندل وعليه جبة يماني سعيدي مثقلة، ومطرف قد التحف به، فعجبت من زيه، فحين حصلت معه في القبة نالني من البرد أمر عظيم فضحك وأمر لي بجب ومطرف وقال يا غلام، أكشف جوانب القبة، فكشفت فإذا أبواب مفتوحة من جوانب الإيوان إلى مواضع مكسوة بالثلج، وغلمان يروحون ذلك الثلج فيخرج منه البرد الذي لحقني، ثم دعا بطعامه فأتي بمائدة في غاية الحسن عليها كل شيء ظريف، ثم أتى بفراريج مشوية في نهاية الحمرة، وجاء الطباخ فنفضها كلها فانتفضت وقال هذه فراريج تعلف اللوز والبزر قطوناً، وتسقى ماء الرمان، ولما كان في صلب الشتاء دخلت عليه يومًا والبرد شديد، وعليه جبة محشوة وكساء، وهو جالس في طارمة في الدار على بستان في غاية الحسن، وعليها سمور قد ظهرت به، وفوقه جلال حرير مصبغ، ولبود مغربية وانطاع أدم يمانية، وبين يديه كانون فضة مذهب مخرق، وخادم يوقد العود الهندي، وعليه خلالة قصب في نهاية الرفعة، فلما حصلت معه في الطارمة وجدت من الحر أمرًا عظيماً، فضحك وأمر لي بغلالة قصب، وتقدم يكشف جوانبالطارمة، فإذا مواضع لها شبابيك خشب بعد شبابيك حديد، وكوانين فيها فحم الغضا، وغلمان ينفخون ذلك الفحم بالزقاق كما تكون للحدادين، ثم دعا بطعامه فأحضروا ما جرت به العادة في السرو والنظافة، فأحضرت فراريج بيض شديدة البياض فبشعتها وخفت أن تكون غير نضيجة ووافى الطباخ فنفضها فانتفضت، فسألته عنها فقال هذه تعلف الجوز المقشر، وتسقى اللبن الحليب.وكان يختيشوع بن جبرائيل يهدي البخور في درج، ومعه درج آخر فيه فحم يتخذ له من قضبان الأترج والصفصاف، وشنس الكرم المرشوش عليه عند إحراقه ماء الورد المخلوط بالمسك والكافور، وماء الخلاف والشراب العتيق، ويقول أنا أكره أن أهدي بخورًا بغير فحم، فيفسده فحم العامة، ويقال هذا عمل بختيشوع، وحدث أبو محمد بدر بن أبي الأصبغ، عن أبيه، عن أبي عبد اللَّه محمد بن الجراح، عن أبيه، أن المتوكل قال يومًا لبختيشوع ادعني، فقال السمع والطاعة فقال أريد أن يكون ذلك غداً، قال نعم وكرامة، وكان الوقت صائفاً، وحره شديداً، فقال بختيشوع لأعوانه وأصحابه أمرنا كله مستقيم إلا الخيش فإنه ليس لنا منه ما يكفي، فأحضر وكلاءه وأمرهم بابتياع كل ما يوجد، من الخيش بسر من رأى، ففعلوا ذلك وأحضروا كل من وجدوه من النجادين والصناع، فقطع لداره كلها صونها، وحجرها ومجالسها وبيوتها ومستراحاتها، خيشا حتى لا يجتاز الخليفة في موضع غير مخيش، وأنه فكر في روائحه التي لا تزول إلا بعد استعماله مدة، فأمر بابتياع كل ما يقدر عليه بسر من رأى من البطيخ، وأحضر أكثر حشمه وغلمانه وأجلسهم يدلكون الخيش بذلك البطيخ ليلتهم كلها، وأصبح وقد انقطعت روائحه، فتقدم إلى فراشيه فعلقوا جميعه في المواضع المكورة، وأمر طباخيه بأن يعملوا خمسة آلاف جونة في كل جونة باب خبز سميد، دست رقاق وزن الجميع عشرون رطلاً؛ وحمل مشوي وجدي بارد، وفائقة ودجاجتان مصدرتان، وفرخان ومصوصان، وثلاثة ألوان وجام حلواء، فلما وافاه المتوكل رأى كثرة الخيش وجدته فقال أي شيء ذهب برائحته؟ فأعاد عليه حديث البطيخ فعجب من ذلك، وأكل هو وبنو عمه والفتح بن خاقان على مائدة واحدة، وأجلس الأمراء والحجاب على سماطين عظيمين لم ير مثلهما لأمثاله، وفرقت الجون على الغلمان والخدم والنقباء والركابية والفراشين والملاحين وغيرهم من الحاشية لكل واحد جونة، وقال قد أمنت ذمهم لأنني ما كنت آمن لو أطعموا على موائد أن يرضى هذا ويغضب الآخر، ويقول واحد شبعت ويقول آخر لم أشبع، فإذا أعطى كل إنسان جونة من هذه الجون كفته واستشرف المتوكل على الطعام فاستعظمه جدًّا، وأراد النوم، فقال لبختيشوع أريد أن تنومني في موضع مضيء لا ذباب فيه وظن أنه يتعنته بذلك، وقد كان بختيشوع تقدم بان تجعل أجاجين السيلان في سطوح الدار ليجتمع الذباب عليه، فلم يقرب أسافل الدور ذبابة واحدة، ثم أدخل المتوكل إلى مربع كبير سقفه كله بكواء فيها جامات يضيء البيت منها، وهو مخيش مظهّر بعد الخيش بالدبقي المصبوغ بماء الورد والصندل والكافور.فلما اضطجع للنوم أقبل يشم روائح في نهاية الطيب لا يدري ما هي لأنه لم ير في البيت شيئًا من الروائح والفاكهة والأنوار؛ ولا خلف الخيش لا طاقات ولا موضع يجعل فيه شيء من ذلك، فتعجب وأمر الفتح بن خاقان أن يتتبع حال تلك الروائح حتى يعرف صورتها، فخرج يطوف فوجد حول البيت من خارجه ومن سائر نواحيه وجوانبه أبوابًا صغارًا لطافًا كالطاقات محشوة بصنوف الرياحين والفواكه واللخالخ، والمشام التي فيها اللفاح، والبطيخ المستخرج ما فيها المحشوة بالنمام والحماحم اليماني المعمول بماء الورد والخلوق والكافور والشراب العتيق والزعفران الشعر، ورأى الفتح غلمانًا قد وكلوا بتلك الطاقات مع كل غلام مجمرة فيها ند يسجره ويبخر به، والبيت من داخله أزار من اسفيداج مخرم خرومًا صغارًا لا تبين تخرج منها تلك الروائح الطيبة العجيبة إلى البيت، فلما عاد الفتح وشرح للمتوكل صورة ما شاهده كثر تعجبه منه، وحسد بختيشوع على ما رآه من نعمته، وكمال مروءته، وانصرف من داره قبل أن يستتم يومه، وأدعى شيئًا وجده من التياث بدنه، وحقد عليه ذلك فنكبه بعد أيام يسيرة، وأخذ له مالًا كثيرًا لا يقدر، ووجد له في جملة كسوته أربعة آلاف سراويل دبيقي سيتيزي في جميعها تكك ابريسم أرمني، وحضر الحسين بن مخلد فختم على خزانته وحمل إلى دار المتوكل ما صلح منها وباع شيئًا كثيراً، وبقي بعد ذلك حطب وفحم ونبيذ وتوابل، فاشتراه الحسين ابن مخلد بستة آلاف دينار، وذكر أنه باع من جملته بمبلغ ثمانية آلاف دينار، ثم حسده حمدون ووشى إلى المتوكل، وبذل فيما بقي في يده مما ابتاعه ستة آلاف دينار، فاجيب إلى ذلك، وسلم إليه، فباعه بأكثر من الضعف، وكان هذا في سنة أربع وأربعين ومائتين للهجرة، قال فثيون الترجمان كان المعتز باللَّه قد اعتل، في أيام المتوكل، علة من حرارة امتنع منها من أخذ شيء من الأدوية والأغذية، فشق ذلك على المتوكل كثيراً، واغتم به، وصار إليه بختيشوع، والأطباء عنده وهو على حاله في الامتناع، فمازحه وحادثه فأدخل المعتز يده في كم جبة وشي يمان مثقله كانت على بختيشوع وقال ما أحسن هذا الثوب فقال بختيشوع يا سيدي ما له واللّه نظير في الحسن وثمنه علي ألف دينار فكل لي تفاحتين وخذ الجبة، فدعا بتفاح فأكل اثنتين ثم قال له تحتاج يا سيدي الجبة إلى ثوب يكون معها، وعندي ثوب هو أخ لها، فاشرب لي شربة سكنجبين وخذه، فشرب شربة سكنجبين، ووافق ذلك اندفاع طبيعته فبرأ المعتز وأخذ الجبة والثوب وصلح من مرضه، فكان المتوكل يشكر هذا الفعل أبدًا لبختيشوع.وقال ثابت بن سنان بن ثابت إن المتوكل اشتهي في بعض الزوقات الحارة أن يأكل مع طعامه خردلًا فمنعه الأطباء من ذلك لحدة مزاجه وحرارة كبده وغائلة الخردل، فقال بختيشوع أنا أطعمك إياه وإن ضرك علي فقال افعل، فأمر بإحضار قرعة وجعل عليها طينًا وتركها في تنور واستخرج ماءها وأمر بأن يقشر الخردل ويضرب بماء القرع، وقال أن الخردل في الدرجة الرابعة من الحرارة والقرع في الدرجة الرابعة من الرطوبة فيعتدلان، فكل شهوتك، وبات تلك الليلة ولم يحس بشيء من الأذى، وأصبح كذلك، فأمر بأن يحمل إليه ثلاثمائة ألف درهم وثلاثون تختًا من أصناف الثياب، وقال إسحاق بن علي الرهاوي، عن عيسى بن ماسة قال رأيت بختيشوع بن جبرائيل وقد اعتل، فأمر أمير المؤمنين المتوكل والمعتز أن يعوده وهو إذ ذاك ولي عهد، فعاده ومعه محمد بن عبد اللّه بن طاهر ووصيف التركي قال وأخبرني إبراهيم بن محمد المعروف بابن المدبر أن المتوكل أمر الوزير شفاهًا وقال له أكتب في ضياع بختيشوع فإنها ضياعي وملكي فإن محله منا محل أرواحنا من أبداننا، وقال عبيد اللَّه بن جبرائيل بن عبيد اللَّه بن بختيشوع، هذا المذكور مما يدل على منزلة بختيشوع عند المتوكل وانبساطه معه، قال من ذلك، ما حدثنا به بعض شيوخنا، أنه دخل بختيشوع يومًا إلى المتوكل وهو جالس على سدة في وسط دار الخاصة، فجلس بختيشوع على عادته معه على السدة وكان عليه دراعة ديباج رومي، وقد أنفتق ذيلها قليلاً، فجعل المتوكل يحادث بختيشوع ويعبث بذلك الفتق حتى بلغ إلى حد النيفق، ودار بينهما كلام اقتضى أن سأل المتوكل بختيشوع بماذا تعلم أن المشوّش يحتاج إلى الشد والقيادة؟ قال إذا بلغ فتق درّاعة طبيبه إلى حد النيفق شددناه، فضحك المتوكل حتى استلقى على ظهره، وأمر له في الحال بخلع سنية ومال جزيل، وقال أبو الريحان البيروني في كتاب الجماهر في الجواهر أن المتوكل جلس يومًا لهدايا النيروز فقدم إليه كل علق نفيس؛ وكل ظريف فاخر، وأن طبيبه بختيشوع بن جبرائيل دخل وكان يأنس به، فقال له ما ترى في هذا اليوم؟ فقال مثل جرياشات الشحاذين إذ ليس قدر، وأقبل على ما معي، ثم أخرج من كمه درج أبنوس مضبب بالذهب، وفتحه عن حرير أخضر انكشف عن معلقة كبيرة من جوهر لمع منها شهاب ووضعها بين يديه، فرأى المتوكل ما لا عهد له بمثله، وقال من أين لك هذا؟ قال من الناس الكرام ثم حدث أنه صار إلى أبي من أم جعفر زبيدة في ثلاث مرات ثلاثمائة ألف دينار بثلاث شكايات عالجها فيها واحدتها أنها شكت عارضًا في حلقها منذرة بالخناق فأشار إليها بالفصد والتطفئة والتغدي بحشو وصفه، فأحضر على نسخته في غضارة صينية عجيبة الصفة وفيها هذه الملعقة، فغمزني أبي علي رفعها، ففعلت ولففتها في طليساني وجاذبنيها الخادم، فقالت له لاطفه ومره بردها، وعوضه منها عشرة آلاف دينار، فامتنعت وقال أبي يا ستي إن ابني لم يسرق قط فلا تفضحيه في أول كراته لئلا ينكسر قلبه، فضحكت ووهبتها له، وسئل عن الآخرتين فقال أنها اشتكت إليه النكهة بأخبار إحدى بطانتها إياها، وذكرت أن الموت أسهل عليها من ذلك، فجوعها إلى العصر، وأطعمها سمكًا ممقوراً، وسقاها دردي نبيذ دقل باكراه فغثت نفسها وقذفت، وكرر ذلك عليها ثلاثة أيام ثم قال لها تنكهي وفي وجه من أخبرك بذلك واستخبريه هل زال؟ والثالثة أنها أشرفت على التلف من فواق شديد يسمع من خارج الحجرة، فأمر الخدم بأصعاد خوابي إلى سطح الصحن وتصفيفها حوله على الشفير وملأها ماء، وجلس خادم خلف كل جب حتى إذا صفق بيده على الأخرى دفعوها دفعة إلى وسط الدار، ففعلوا وارتفع لذلك صوت شديد أرعبها، فوثبت وزايلها الفواق، قال أبو علي القياني؟ حدثني أبي قال دخلت يومًا إلى بختيشوع، وكان من أيام الصيف، وجلست فإذا هو قد رفع طرفه إلى خادمه وقال له هات، فجاء بقدح فيه نحو نصف رطل شراب عتيق، وعلى طرف خلالة ذهب شيء أسود فمضغه، ثم شرب الشراب عليه، وصبر ساعة، فرأيت وجهه يتقد كالنار، ثم دعا باطباق فيها خوخ جبلي في نهاية الحسن، فأقبل يقطع ويأكل حتى انتهى وسكن تلهبه، وعاد وجهه إلى حاله، فقلت له حدثني بخبرك؟ فقال اشتهيت الخوخ شهوة شديدة وخفت ضررها، فاستعملت الترياق والشراب حتى نقرت الحجر ليجيد الطحن، وقال أبو علي القياني عن أبيه، قال حدثني محمد بن داود بن الجراح.قال كان يختيشوع الطبيب صديقًا لأبي وكان لنا نديم كثير الأكل عظيم الخلق، فكان كلما رآه قال له أريد أن تركب لي شربة؛ وأبرمه إلى أن وصف له دواء فيه شحم الحنظل وسقمونيا؛ وقال بختيشوع لأبي ملاك الأمر كله أن يأكل أكلًا خفيفًا ويضبط نفسه فيما بعد عن التخليط، فأطعم بيوم الحمية في دارنا واقتصر على اسفيدباج من ثلاثة أرطال خبر، فلما استوفى ذلك طلب زيادة عليه فمنع واعتقله أبي عنده إلى آخر الأوقات، ووجه إلى امرأته يوصيها أن لا تدع شيئًا يؤكل في داره، ولما علم أن الوقت قد ضاق عليه أطلقه إلى منزله، فطلب من امرأته شيئًا يأكله فلم يجد عندها شيئاً، وكانت قد أغفلت برنية فيها فتيت على الرف فوجده وأخذ منه أرطالاً، ثم أصبح وأخذ الدواء فتحير، وورد على المعدة وهي ملأى فلم يؤثر، وتعالى النار، فقال قد خرف بختيشوع، وعمد إلى عشرة أرطال لحم شرائح فأكلها مع عشرة أرطال خبز، وشرب دورقًا ماء بارداً، فلما مضت ساعة طلب الدواء طريقًا للخروج من فوق أو من أسفل فلم يجد فانتفخت بطنه وعلا نَفَسه، وكاد يتلف، وصاحت امرأته واستغاثت بأبي، فدعا بمحمل وحمل فيه إلى بختيشوع، وكان ذلك اليوم حارًا جدًّا، وكان بختيشوع حين انصرف من داره وهو ضجر، فسأل عن حاله إلى أن علم شرح أمره، وكان في داره أكثر من مائتي طير من الطيطويات والحصانيات والبيضانيات وما يجري مجراها، لها مسقاة كبيرة مملوءة ماء، وقد حمي في الشمس وذرقت فيه الطيور، فدعا بملح جريش، وأمر بطرحه في المسقاة كله وتذويبه في الماء ودعا بقمع، وسقى الرجل كله، وهو لا يعقل، وأمر بالتباعد عنه، فأتى من طبيعته فوق وأسفل أمر عظيم جدًا حتى ضعف، وحفظت قوته بالرائحة الطيبة وبماء الدراج، وأفاق بعد أيام وعجبنا من صلاحه، وسألنا عنه بختيشوع فقال فكرت في أمره فرأيت أني أن اتخذت له دواء طال أمره حتى يطبخ ويسقى فيموت إلى ذلك الوقت، ونحن نعالج أصحاب القولنج الشديد بذرق الحمام والملح، وكان في المسقاة الماء في الشمس وقد سخن، واجتمع فيه من ذرق الحمام ما يحتاج إليه، وكان أسرع تناولًا من غيره، فعالجته به ونجع بحمد اللّه، ونقلت من بعض الكتب أن بختيشوع كان يأمر بالحقن، والقمر متصل بالذنب، فيحل القولنج من ساعته، ويأمر بشرب الدواء، والقمر على مناظرة الزهرة فصلح العليل من يومه، ولما توفي بختيشوع خلف عبيد اللّه والده، وخلف معه ثلاث بنات، وكان الوزراء والنظار يصادرونهم ويطالبونهم بالأموال، فتفرقوا واختلفوا، وكان موته يوم الأحد لثمان بقين من صفر سنة ست وخمسين ومائتين، ومن كلام بختيشوع بن جبرائيل قال الشرب على الجوع رديء، والأكل على الشبع أردأ، وقال أكل القليل مما يضر، أصلح من أكل الكثر مما ينفع، ولبختيشوع بن جبرائيل من الكتب كتاب في الحجامة على طريق المسئلة والجواب.
|